في زقاق صغير يؤدي إلى سوق الجامع في مدينة جدة القديمة خرجت الجنازة في هدوء .. وصُلي على من فيها .. دفن في مقابر الأسد .. رجع كلٌ إلى بيته والحزن يطبق أنفاسه عليهم جميعاً .. فقد كان مثال الاستقامة والوسامة والرجولة والحنان .. شاب كافح وتزوج قبل ستة أشهر فقط ..امرأته تحمل في أحشائها الجنين الذي لن يراه أباه .. انتهت فترة الحمل وقدم المولود و أطلق عليه اسم أبيه .. فأصبح اسمه مكرراً .
في الحارة .. تقدم لوالدة الطفل معظم شباب الحارة .. ولكنها كانت تأبى وتعتذر .. قررت أن تبقى لابنها .. وابنها فقط . اشتغلت في البيوت الفارهة في حارة الشام وعند الأغنياء .. وقت المناسبات تغسل فوق الطشت يوماً .. تكوي بمكوى الفحم الملابس يوماً .. تطبخ يوماً .. ما تكسبه تنفقه على ابنها .. تقيم كل شهر سهرة للنساء فيتسامرون في بيتها النظيف المتواضع .. تقرأ لهن ( أبو زيد الهلالي ، عنترة ابن شداد ، .....) أحبها الجميع .
كانت خادمة بأجر .. لكنها كريمة عزيزة .. تظهر عفافها ورقتها وصرامتها .. وجدها .. سيدة ولا كل الرجال .
أول أيام المدرسة ذهبت إلى مدرسة الـ..... لتسجل ابنها ..قوبلت من مدير المدرسة بترحاب شديد ولطف ومحبة فقد أصبحت معروفه لدى الجميع .. لا يستغنى عنها .. في كل المناسبات أفراحاً و أتراحاً .. عند الانصراف تقف في ركن صغير بجوار حوش البقر المؤدي إلى المدرسة .. تنتظر ابنها لتصحبه إلى البيت .. كل همها وحملها ينصب على هذا الصغير.. اليتيم الأنيق .
تقول له : غداً سوف تسمع عنك كل جدة .. سوف تكون وتكون .. سيسير موظفوك خلفك .. سوف يكون لك ملتقى يزورك فيه الوجهاء .. سوف تكون العاقل الراشد .. واليد التي تعطي .. والمثال الأعلى لرجال جدة كلها .
ألا ترى الشيخ فلان وفلان ..سوف تكون أحسن منهم وأعظم منهم .. ستكون وتكون ..تغرس فيه أحلاماً و أماني مستقبل جيل .. لطفولة يتيمة و بيت عفا عليه الزمن .
فالبيارة تنزف من الدهليز .. والسقا يأتي يوماً ويتأخر أياماً .. تحمل تنكة الماء بنفسها .. لتضعها في الزير المركون في أطراف (بيت الماء ) ، سعيدة قوية متفائلة محبوبة كريمة رغم فقرها و عوزها .
أوقاتها منضبطة .. صرفها محسوب .. كل شيء بانتظام .
تسمح لابنها بمشاركة أقرانه في برحة الحارة اللعب ، تراقبه من خلف الشيش . وهي تدعو له ( الله يحفظك ، الله يرعاك )
وترفع يديها وتقول : اللهم إنك كريم حنان .. لا تتوفاني إلا وقد جعلته ملأ السمع و البصر .. اللهم إنه وحيدي اليتيم فعامله بما أمرتنا أن نتعامل به ، فاجعلني وإياه عباد رحمة ولا تجعلنا عبيد ابتلاء .. يا كريم .
من أناقتها وعفتها يحسبها الكثير أنها لا تحتاج ..
أرسل لها أحد أغنياء الحارة في رمضان نقوداً لمساعدتها ، فردتها وقالت : نحن من أسرة لا تقبل الزكاة ، ولكننا نقبل الهدية .
في إجازات المدرسة .. تذهب إلى النجار في منطقة ( المشورة ) تتمنى عليه أن يعلمه وأن يبقيه معه حتى يشغل وقته ويستفيد بنصائحه ..
في السنة الثانية تذهب به إلى دكان الصيرفي وتتمنى عليه أن يبقيه للعمل لديه حفاظاً عل وقته .
لا تطلب لابنها أجراً .. ولا تشترط على أحد مكافأته .. فالكل يرعى الصغير و اليتيم حباً وكرامة وعطفاً .
تمر السنون .. على هذا اليتيم .. من محل إلى آخر .. يستمع ويرى ويخدم .. ويحضر الشاي من القهوة المجاورة .. ويكنس المحل .. وينظف الفوانيس .. ويوصل المقاضي ويعود إلى أمه .
تحبس دموعها التي تحجرت في مقلتيها .. كبقايا شمعة أطفئت فتجمدت دموعها عند نهايتها .. تسأل عنه كيف وكيف ..
تلقنه كل لحظه معنى الصبر والكفاح داعمة رأيها بشيء من القرآن تارة .. حتى أنه عرف أسماء يونس ويوسف وأيوب عليهم السلام وقصصهم والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وكفاحه ، وصحابته و صبرهم .. يسأل وتجيبه .
يستمع إلى محاضرات مسجد عكاش من الواعظين فيه ما يثري فكره و أحلامه .. تأخذ ما تبقى من المجلات والجرائد من مكتبة الأصفهاني ليقرأ ابنها .. وانتقل إلى المدرسة الكبيرة حتى آخر سنة وقد التهم علمها و أصبح رجلاً له تقديره و احترامه .
أراد أن يعمل فالتحق بالرجل الوقور في مكتبه كاتب حسابات أمين صندوق... وهكذا تدرج ، وأصبح الكل في الكل ، وهو في السادسة عشرة من عمره .
أتى أمه يوماً حزيناً قائلاً :لقد ماتت زوجة عمي ( يعني رئيسه في العمل ) ولقد كان يحبها جداً .. ماتت بدون مقدمات ..ظهرت عليها الصفاري ( الصفراء ) وأخذت الدواء ولكن الأجل داهمها .
تعرفين يا أمي أن لا أولاد عنده فقد كانت له أماً وأختاً وابنه وزوجة وصديقة . لقد حزن كثيراً وأنا حزنت كما لم أحزن من قبل ..
قالت له : سيعوضه الله .. مضى عام سأله العم قائلاً : من خالك ؟ قال : لا خال لي .. من عمك ؟ أخو أبيك .. قال :لا عم لي .. قال : إذاً من المسؤول عنك؟ قال : أمي .. فهي كل شيء .. وحكى له الليالي و الأيام وأفاض و أفاض .. قال العم اشتقت إلى أكلة بيتيه فأخبر أمك بأني مدعو عندك للعشاء .
ذهب صاحبنا إلى بيت اليتيم فوجد ترتيباُ ونظافة وأناقة وبساطة في البيت رغم الدخل المحدود .
ولكنه متفوق برائحة الحب والعناية والاهتمام .. من خلف تلك الصفة الصغيرة استمعت إلى كلمات الثناء لابنها .. ومباركة الرجل لأمه وكفاحها .. غادر المكان مودعاً من بيت عزيز إلى بيته الذي يكتسي بكل أنواع الراحة من أثاث وخدم .. وليس فيه عبق ذلك البيت المتواضع .
في العيدروس شيخ الحارة ( ........ ) توسط فخطبها وتزوجت من عمه ( رئيسه في العمل ) أنجبت منه أبناءاً ليكونوا إخوة له .
أصبح الحلم حقيقة .. وازدانت جدة .. بأم أنجبت أغلى الرجال .. لقد وضعت ذاتها وإمكاناتها لتحقيق هدفها لابنها اليتيم .. فأكرمها الله بعز ما كان لظنها أن يبلغه ..
جلس بين يديها يملأ عينيه بوجه تلألأ نوراً وضياءاً ..
سألها : كيف يكتسب العز يــا أمي ؟
نظرت إليه بحب وإعجاب نظرة لا يعرفها إلا من كان محباً ومحبوباً ..
يا بني .. دائرة الأفلاك لا تديم نعمه .. ولا تقيم نقمة .. لقد وضع الله في كل قلب ما أشغله ..
فاشتغل بذكر الله يطمئن قلبك .. وأكثر من الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنها سكن النفوس وقربة للمؤمنين ودخولاً لرحمة الله ..
واقرأ .. ألا بذكر الله تطمئن القلوب
واقرأ .. وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم
واقرأ .. وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته و اعلم أن أول الحكمة الشكر ..
واقرأ .. ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله
وعليك بالتقوى والصبر ..
واقرأ .. أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
و اعفو عمن ظلمك ، وصل من قطعك ، وأعط من حرمك
واقرأ .. فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون
بابني .. إذا أخطأت اعترف بخطأك .. فإنه من يتكبر يطرد .. ومن يستغفر يغفر له .. فإن الشيطان استكبر فطرد .. وآدم استغفر فغفر له ..
يا بني .. كن مع الصادقين .. وأحسن الظن بالله .. فإن من لم ينفعه ظنه لا ينفعه يقينه ..
يا بني .. أصلح سرك وعلانيتك .. إنما الأعمال بالنيات .. ونية المرء خير من عمله ..
يا بني .. الحلال بين و الحرام بين ..
إنما يتقبل الله من المتقين .. فكثير المال عقاب ، وقليله حساب .. و الأكثرون هم المقلون يوم القيامة .. إلا من قال هكذا وهكذا ..
يا بني .. لا يلهك جمال النعمة عن جلال الوهاب ..
النعمة كائن حي .. فإذا أحببتها في وطنها .. أحبتك وجعلتك وطناً لها .. ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..
رزقك الله الخشوع والطاعة و القبول .. وقوة الإيمان وحلاوته .
وصلي على السراج المنير المصطفى صلى الله عليه وسلم .
العز ،، الانتساب إلى الله !!